حول مشكلة المجاز/ د. المختار الجيلاني

مشكلات المعنى هي أم كل المشكلات؛ فهي التي لا يمكن حلها لا بالقوة ولا بالتفاوض وإن أمكن تسوية كل ما عداها بالتفاهم. إنها تتعلق بحق من أقدس حقوق الإنسان الفرد، ألا وهو امتلاك المعنى.
ولقد كان من أبرز مشكلات المعنى في اللغة االعربية منذ عصور التدوين الأولى،

 صعوبة التمييز أحيانا بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي؛ ذلك أن العربية لغة تتسم بغلبة الطابع المجازي في كل استعمالاتها: اليومية والرسمية والعلمية والفنية. وقد تسببت هذه الوضعية في بروز عدد من الخلافات العميقة في فهم بعض النصوص الشرعية وتأويلها، وفطن إليها بعض القدامى من اللغويين العرب فانقسموا إلى فريقين: منكر للمجاز مثل السيوطي الذي ذهب إلى القول بأن لا مجاز في لغة العرب بحجة أن العرب نطقت بالحقيقة والمجاز على وجه واحد (المزهر)، ومنكر للحقيقة مثل ابن جني الذي ذهب إلى القول بأن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة (الخصائص).
ولعل السؤال الأهم الذي لم يطرح بشكل صريح بعد هو: لماذا يغلب المجاز على استعمال اللغة العربية؟
وعند التأمل في العلل الوظيفية والثقافية والاجتماعية_اللغوية تتبادر إلى الأذهان جملة من المعطيات التي يمكن أن تعين على تفسير هذه الظاهرة، ومنها:
- اكتمال نضج اللغة العربية؛ حيث إن اللغات الأقل تطورا تكون في العادة أقرب إلى التجسيد والمباشرة والتصريح واستخدام الأنماط التعبيرية الثابتة، فيما تميل اللغات الأكثر رقيا إلى التجريد واستخدام التمثيل وتوظيف منطق المقولات السياقية: النصية والثقافية والمادية (المقامية).
- تأثير الثقافة الشعرية على التعامل مع نظام اللغة؛ حيث ينزع متكلمو اللغة العربية إلى محاكاة الشعر في حدود القدرات الإبداعية لديهم، من أجل إحداث أشكال صادمة من الانزياح أو العدول عن النمط، وإطلاق العنان لحرية التصرف في نظام الدوال وإحلالات المعنى.
- سيطرة القيم النبيلة التي تقتضي التحلي بمستوى عال من الشهامة والترفع والتسامي في شتى أنماط السلوك البشري بما في ذلك السلوك اللغوي،  وهو ما يعكسه ميل المتكلمين باللغة العربية إلى تجنب استخدام الوحشي والفاحش من الكلام وكل لفظ حسي أو تعبير صريح، وتخير الكلمات الموحية واستعمال التلطف في التعبير بديلا عن ذلك.
- احترام عقل المخاطب وتحفيزه لممارسة التخيل والتأويل وملء الفراغات وإعادة ترتيب نظام اللغة بنفسه، والحرص على إثارة الحساسية اللغوية لديه لإدراك الوظائف الجمالية والتداولية للغة، مع الإيعاز بأهمية الرسالة من خلال فاعلية الإبداع وحجم الجهد (التكلفة) لإنتاجها.

16. أغسطس 2015 - 11:35

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا