الدولة والقبيلة: أيّ رهان خاسر!! / د. محمد ولد محفوظ

من بين التعريفات العديدة للقبيلة أنّها نظام اجتماعي بدائي يقوم على الاستقرار المكاني وعاطفة الجماعة، وقد وجد منذ العصور القديمة لتنظيم حياة جماعة معينة والتعارف في ما بينها. أمّا الدولة فهي جهاز سياسي وقانوني متطوّر ينظّم المجتمع ويضع الخطط العامة لنهضة الوطن، ويشرف على تنفيذها لما فيه صالح جميع المواطنين.

     بيد أنّ من أكبر المشاكل التي تعيشها موريتانيا ظاهرة التداخل بين الدولة والقبيلة، إلى الحدّ الذي يصبح معه المواطن في بعض الحالات حائرا أهو في دولة حديثة، أم في تجمّع أعلى للقبائل، والسبب أنّ حكّامنا لم يعرفوا بعد كيف يمكن أن يقيموا دولة المواطنة، ولا حتّى أن يضعوا حدودا فاصلة بين الدولة والقبيلة، فما هو موجود لدينا، وأساسا منذ العقود الأخيرة، لا يتعدّى دولة الجماعات الحاكمة بمباركة ومشاركة قبلية قوية، وهذه الجماعات هي التي تجني لوحدها ثمار الدولة وامتيازاتها، وهو سبب كاف ـ عبر الحقب ـ لارتفاع أصوات الكادحين والمظلومين والمهمّشين والمؤمنين بالدولة الوطنية من الذين يطالبون بدولة العدل والمساواة، فيولّد الأمر حالة من التوتّر والاحتكاك المزمن بين هذه الأطراف وبين الدولة، لكنّ الغريب حقا أن تغدو حالة التوتّر هذه فعلا ذاتيا داخليا، يمزّق بنية الجماعات الحاكمة نفسها، فيضرب بعضها بعضا، ومن مظاهر ذلك كثرة الانقلابات في البلد، لأنّها لا تعدو أن تكون تكالبا على السلطة والجاه والمال، وهي الامتيازات التي يجنيها هؤلاء حالة ارتهانهم للبلد واختطافهم له.
    أمّا عن طبيعة الجماعات الحاكمة فهي عبارة عن تحالف يضمّ الممسكين بزمام السلطة أيّا كانوا، وهم في الأغلب عسكريون، مع المؤسّسة العسكرية ورموز القبائل هذا إضافة إلى أدوار تكميلية لبعض الزعامات الدينية والمثقّفين والساسة. وبذلك تكون الدولة قد سلكت منذ قيامها طريقا خاطئا في التعامل مع هذا الكشكول ـ المتعدّد المطالب والأهداف، والتي لا مجال لتحقّقها إلّا على حساب الدولة ذاتها والمواطن البسيط ـ بدلا من التعامل مباشرة مع كلّ أفراد المجتمع الموريتاني عن طريق تساوي الفرص والمشاركة السياسية الحقيقية وتحقيق مشروع تنموي وحضاري شامل.
       ولا بد من الإشارة هنا إلى أنّ مؤسّسي الدولة الأوائل حاولوا إلى حدّ ما تجاوز القبيلة لصالح الدولة الحاضنة لكلّ مكوّناتها الشعبية بدون تمييز، رغم صعوبة الوضعية الداخلية ـ قبل الخارجية ـ ساعتئذ، لأنّها دولة ناشئة في ظلّ مجتمع عشائري بدوي، لا عهد له بالدولة، ولا هي من اختياراته أصلا، بقدر ما اختارها له الاستعمار أو فرضها عليه، ورغم ذلك فقد بذل أؤلئك المؤسّسون جهودا لا يستهان بها لتأسيس ثقافة الدولة وتكريس قيّمها السامية، لكنّ هذا المسار سرعان ما أصبح رهانا خاسرا إذ شهد نكوصا مدويا، فتمّ تتفيهه وإجهاضه بفعل تغوّل القبيلة، وخصوصا في ظلّ أحكام العسكر المتعاقبة.
     وتوخيّا للدقة والموضوعية يلزم القول بأنّ القبيلة التي نتحدّث عنها هنا ما هي في الحقيقة إلّا ثلّة قليلة من الناس ورثت مكانة في هرم تلك البنية التقليدية فهي تستغلّها لمصالحها وأهدافها الذاتية، أمّا بقية أفرادها وهم القاعدة العريضة، فلولا شيء من الاعتبار المعنوي المستمدّ من الذاكرة التراثية الجمعية، لجزمت بأنّ حالها حال الفئات المهمّشة سواء بسواء. وبهذا المعنى فالقبيلة أيضا مختطفة ومرتهنة من قبل مجموعة قليلة، كما هي حال الدولة ذاتها.
     إنّ مسؤولية الدولة الحديثة أن تقوّض البنية الاجتماعية التقليدية وتمحو الفوارق بين الطبقات وتحقّق مبدأ المواطنة على أساس المساواة بين جميع المواطنين، ولكنّ هذا الطموح المشروع تبدّد تماما بفعل التصادم الكلّي بين أهداف الدولة ـ بمعناها الفعلي ـ واستراتيجياتها النبيلة وبين المصالح الضيّقة للتحالف المذكور، وما هو مزعوم من تطوّر الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في موريتانيا ليس إلاّ عملية تجميلية فاشلة للوجه الكالح لدولة هذا التحالف، فالتشكيلات الوزارية والسلك الدبلوماسي، وأعضاء المجالس التشريعية والبلدية والمناصب السامية وكذا العادية في الدولة، كلّ ذلك يعبّر بشكل واضح وفاضح عن لعبة التوازنات بين ممثلي السلطة الحاكمة والقبائل والمؤسّسة العسكرية والزعامات الدينية، مع محاولة تحسين اللوحة بعناصر قليلة من المكوّنات المهمّشة.
     إنّ قيام دولة تحالف الجماعات هذه بدل دولة المجتمع بشكل عام هو بالذات السبب الأبرز وراء تصاعد موجة النضال التي تخوضها أطراف وأطياف سياسية واجتماعية عديدة، ومن بينها الشرائح المهمّشة كلحراطين ولمعلمين، وهما الفئتان اللتان يحلو للبعض أنّ يقول إنّ نضالهما يرمي إلى إثارة الفتنة وإذكاء النعرات وتقويض أركان الدولة، وهذا منطق لا يستقيم ـ في نظري ـ لأنّ كبار منظّري علم الاجتماع يقولون بأنّ الحاجة إلى الدولة تكون أكبر في مناطق الندرة منها في مناطق الوفرة، وبالمنطق الجدلي نفسه يبرز مفهوم (الحلقة الضعيفة)، وعليه سيكون لحراطين ولمعلمين وغيرهما من الفئات الهشة والمهمّشة من أحرص مكوّنات الشعب الموريتاني على الدولة الوطنية، لأنّه لا مصلحة لهم ـ حال تفكّكها لا قدّر الله ـ  في البديل التقليدي الذي تمثّله القبيلة، فهم يعرفون أكثر من غيرهم ما كانت عليه أوضاعهم في ظلّ نظامها، ولا أظنّ أنّ الحنين ينتابهم من جديد للرجوع إلى تلك المرحلة، بخلاف أطراف أخرى ما زالت متشبّثة بنظام القبيلة، ومن ضمنها من يعيش عشقا جنونيا حدّ الهوس لاستعادة تلك المرحلة، لأنّها بالنسبة إليه تمثّل السيادة والريادة وضمان المصالح بأيسر السبل، بل والتحكّم في مصائر الناس. وإنّما الحقيقة في تقديري أنّ هذه الفئات تناضل من أجل الدولة العادلة، دولة الجميع، وليست دولة تحالف "الأعيان" القائمة في البلد.
    إنّ عدم انتماء الدولة إلى المجتمع وعدم انتماء المجتمع إلى الدولة في واقعنا المعاصر يطرح مشاكل عديدة على المستوى الاجتماعي والتنموي ومنها:
    ـ أنّه يخيّب آمال قطاعات واسعة من الشعب الموريتاني كانت تتوق إلى بناء دولة المؤسسات وترسيخ ثقافة الديموقراطية وحقوق الإنسان في زمن تحرّرت فيه الشعوب من ربقة الظلم والاستبداد وأصبحت حتّى الدول الكبيرة تتنازل عن خصوصيتها الضيّقة لتندمج في اتحادات وأقطاب كبرى علّها تجد لنفسها موطئ قدم في مصاف الأمم المتقدّمة.
   ـ يهمّش جهات عديدة وخصوصا في المناصب السامية كالوزارات والسفارات والإدارات الكبرى لأنّها لا تحمل ذلك الوزن الاجتماعي الضاغط مثلما تحمله جهات أخرى، وحتّى التعيين في الوظائف الصغيرة والمتوسطة كثيرا ما يتمّ خارج الاعتبارات والمعايير السليمة، وذلك لإرضاء طرف من تلك الأطراف النافذة.
    ـ يكرّس ثروة البلاد بوجه غير مشروع في يد الثلّة القليلة من المجتمع، ممّا يضمن لها مزيدا من التغوّل والتعسّف والاستهتار بالشعب ومقدّراته، وتكون النتيجة هي أن يسحق المواطن الكادح في هذه الحياة القاسية تحت الأقدام المتعجرفة لهذه الثلّة التي لا ترحم.
    ـ تقع ممارسة التمييز بين المواطنين في الأجهزة الإدارية والقطاعات الحيوية، وذلك في أبسط الحقوق، حيث تلعب الزبونية والقبلية والجهوية دورا بارزا في إعطاء الأولوية لبعض الناس، في حين يحرم آخرون من حقوقهم لأنّهم لا يمتلكون الأذرع الطويلة المقتحمة والملتقطة لكلّ شيء.
    ـ وفي مجال القانون الذي يمثّل سيادة الدولة وبسبب تغوّل البنية الاجتماعية التقليدية يتمّ التعامل مع الأفراد بحسب مركز النفوذ الاجتماعي وموقع الجاني فيه، فتخفّف العقوبة أو تلغى نهائيا تبعا لذلك ممّا يمثّل تلاعبا بقوانين الدولة ومبادئها العامة التي من المفترض أن تسري على الجميع وبغير استثناء.
    ـ والطامة الكبرى هي أنّ الكفر لم يعد كلّه ملّة واحدة بسبب هيمنة البنية التقليدية في الدولة، فمثلا بين كفر ولد امخيطير ـ الذي تراجع عنه ـ وكفر ولد محمد المامي ـ الذي أصرّ عليه ـ أصبح الكفر كفران، كفر بواح وهو كفر لمعلمين، وكفر مباح وهو كفر رموز البنية التقليدية، وقد شاهد الجميع كيف اختلفت ردّات الفعل والمواقف الرسمية والمجتمعية تماما بين حملات الإدانة والتجييش في الأولى، وبين التغاضي والتلبيس وربّما التدليس في الثانية.
      إنّ المشاكل التي تعترض سبيل الدولة بسبب هيمنة القبيلة والمتنفّذين في المجتمع التقليدي أكثر من أن تحصى، فما أكثر ما تدخّلت القبيلة لإفلات أحد رموزها المجرمين من العقاب الرادع والمناسب لجرمه، وما أكثر ما احتضنت القبيلة أكلة المال العام، واعتبرهم أبطالا وهنّأتهم على خيانتهم للأمانة!! وما أكثر ما دفعت بعض الجهلاء والعاجزين لتولّي مسؤوليات حسّاسة في الدولة مع أنّها تدرك جيّدا أنّهم غير مؤهّلين للقيام بها مطلقا، وما أكثر ما حرمت القبيلة بعض المواطنين البسطاء من حقوقهم بمنافستهم عليها وانتزاعها منهم غلابا، ومن أمثلة ذلك ما يحصل في المسابقات المختلفة، حيث يتقدّم أبناء المتنفّذين اجتماعيا فيحرزون الرتب العليا ويتأخّر سواهم، وقد يتمّ إقصاؤهم كلّيا رغم أنّهم في الواقع قد يكونون الأجدر بالفوز.
   وفوق كلّ ذلك فالقبيلة إطار هرمي تسلّطي، يرفض المساواة حتّى بين أفراده ولا يقيم وزنا لحقوق الإنسان وهو المسؤول عن الاسترقاق والتراتبية الطبقية واضطهاد المرأة والنظرة الدونية للشباب. ومع أنّ الدولة الحديثة قامت للقضاء على كلّ هذه الأمراض التي تجسّدها القبيلة ونظامها، إلّا أنّ المفارقة العجيبة هي أنّ الدولة الموريتانية ما زالت تتحالف مع القبائل، وترخّص لأنشطتها وتغضّ الطرف عمّا بات يسمّى اجتماعات لمّ الشمل، بل وتشتري ذمم شيوخها بالمال العام لأجل حصول الحاكم على مصالحه الخاصة، وخصوصا في فترة الانتخابات، والخاسر في كلّ ذلك هو المواطن الموريتاني البسيط، والوطن بمفهومه الشامل.

3. يناير 2016 - 15:39

آخر الأخبار

تغطيات مصورة

أحدث المقالات

كتاب موريتانيا